حين يتكلم الطريق بلا صوت

بقلم/نشأت البسيوني

حين تمشي في طريق طويل لا تعرف أين ينتهي تشعر أن الأرض تحت قدميك تملك أسرارا أكثر مما تخيلت تشعر أن كل خطوة تخطوها تحمل معنى صغيرًا لا تلاحظه إلا إذا أفرغت قلبك من الضجيج وجلست تستمع لما لا يقال وتشعر أن الطريق نفسه ليس مجرد مساحة تقطع بل هو مرآة تعكس كل ما تحمله بداخلك كل خوف وكل رغبة وكل فراغ وكل أمل وكل حكاية لم تكتمل وكل

شيء حاولت نسيانه ولم ينسك وتشعر أن المسافة الطويلة لا تقاس بعرض الأرض بل بعمق الفكر وبثقل القلب وبعدد الأشياء التي تسقط منك دون أن تلاحظها أثناء السير أو الأشياء التي تلتصق بروحك وتظل تكبر داخلك دون أن تطلب منك إذنا وتشعر أن الطريق يعلمك الصبر يعلمك أنك لا تستطيع الوصول بسرعة ولا تستطيع القفز فوق مراحل حياتك ولا تستطيع الهرب من نفسك

وأن كل شيء فيك يحتاج وقتا لينضج لينكسر ليصلح لينسى ليتذكر ليتجاوز ليعود أقوى أو أهدأ أو أوضح وأن الطريق يعلمك أن الحقيقة ليست في النهاية بل في كل خطوة بين البداية والنهاية كل خطوة تحمل درسا وكل خطوة تحمل اختبارا وكل خطوة تحمل لحظة مواجهة بينك وبين ذاتك وكل خطوة تكشف شيئا أخفيته أو دفنته أو حاولت تجاهله وتشعر أن الطريق يكلمك بلا صوت يخبرك

أن لا أحد يعرف ما بداخلك كما يعرفه الطريق لأنك تكون أمامه عاريا من كل الأقنعة بلا تمثيل بلا مجاملة بلا انتظار لأي تصفيق وأن الطريق يرى حزنك حين تسير بخطوات بطيئة ويرى خوفك حين تتردد ويرى شجاعتك حين تكمل رغم التعب ويرى كل لحظة كدت تسقط فيها وكل لحظة وقفت فيها وكل مرة اخترت ألا ترجع رغم أن الرجوع كان أسهل وتشعر أن الطريق يخبرك أن لا شيء

ثابت وأن كل شيء يتغير وأنك أنت أيضا تتغير تتبدل أفكارك تتبدل رغباتك تتبدل أحلامك تتبدل قوتك وضعفك تتبدل رؤيتك للحياة وللناس وللنفس وتتعلم أن التغير ليس ضعفا بل حركة طبيعية مثل حركة الغيم فوقك ومثل تغير الضوء الذي يسقط على الأرض ومثل تغير لون السماء حين تقترب الشمس من الغروب وتشعر أن الطريق يمنحك مساحتك الخاصة يمنحك مساحة لتتذكر ومساحة لتنسى

ومساحة لتغفر ومساحة لتحاسب ومساحة لتعيد ترتيب كل ما بداخلك ومساحة لتفهم نفسك بالطريقة التي تهرب منها وسط ضوضاء العالم ومساحة تسمح لقلبك أن يشعر دون أن يخاف ولعقلك أن يفكر دون أن يقاطع ولروحك أن تنظر للعالم دون تشويش وتشعر أن الطريق يعلمك أن لا شيء مضمون وأن كل شيء مهدد بالاختفاء وأن كل شخص يمكن أن يرحل وكل حلم يمكن أن

يتغير وكل خطوة يمكن أن تتوقف ولكن رغم ذلك تعلمك أن تكمل أن تستمر أن تواصل الرحلة حتى لو كنت لا تعرف ما الذي ينتظرك لأن الجزء الأهم ليس الوصول بل السير نفسه السير الذي يصنعك يشكلك يعيد بناءك يعيد ترتيبك يعيد فهمك للحياة وتشعر أن الطريق يخبرك أن الحياة ليست كما تتخيل ليست كما تخطط ليست كما تنتظر لكنها دائما تمنحك شيئا حتى لو كان هذا الشيء مجرد

لحظة فهم بسيطة لحظة وعي صغيرة لحظة سلام نادرة لحظة إدراك أنك أقوى مما كنت تظن وأنك قادر على أن تكمل مهما كان كل شيء حولك يشعر بالثقل وتشعر أن الطريق يضع أمامك الحقيقة التي تتجنبها وهي أنك في النهاية وحدك مع نفسك وحدك مع قلبك وحدك مع أفكارك وحدك مع كل ما هربت منه وكل ما حاولت تجاوزه وكل ما ظننت أنك دفنته وأنك مهما التقيت بالناس ومهما

أحطت نفسك بالضجيج ستعود دائما إلى هذا الطريق الذي يواجهك بحقيقتك وحين تنظر إلى المسافة التي خلفك تدرك أن الطريق لم يكن مجرد شيء مشيته بل رحلة كاملة علمتك كيف تنضج كيف تقف كيف تسامح كيف تتجاوز كيف تحب كيف تخسر كيف تنهض كيف تعود كيف تفكر كيف تصمت وكيف تصنع نفسك من جديد وتدرك أن الطريق لم يغير وجهتك فقط بل غير داخلك كله غير

رؤيتك للعالم وللناس وللحياة ولذاتك وتدرك أن كل خطوة كانت تستحق أن تعاش وأن كل لحظة كانت جزءا من حكايتك التي لا يشبهها شيء وتفهم أخيرا أن الطريق لا ينتهي لأن الطريق الحقيقي هو داخلك وأن السير فيه لا يتوقف وأنك كلما قطعت جزءا منه اكتشفت جزءا جديدا من نفسك وجزءا جديدا من قوتك وجزءا جديدا من سلامك وأن رحلتك كلها ليست بحثا عن نهاية بل بحث عن فهم أعمق لصوتك الداخلي الذي يحاول أن يكلمك منذ زمن طويل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق