حين يغدو الصمت وطنا آمنا

بقلم/نشأت البسيوني
هناك لحظات يا صديقي لا ينقذك فيها الكلام
ولا تداويك الحروف مهما كانت صادقة
فتلوذ بالصمت لا ضعفا بل لأنك أدركت أن الضجيج لا يغير شيئا
وأن في الصمت وطنا أكثر دفئا من قلوب كثيرة كانت تدعي القرب
حين يغدو الصمت وطنا آمنا
تتعلم أن الحروف ليست دائما وسيلة خلاص
بل أحيانا تكون قيدا يعيدك إلى الوجع كلما نطقت به
فتختار أن تسكت أن تخفي ما يجتاحك كعاصفة لا يراها أحد
أن تخبئ حزنك في مكان لا يصل إليه إلا الله
تجلس مع نفسك طويلا
تفكر في كل الذين مروا في الوجوه التي غادرت
في الأحاديث التي لم تكتمل
وفي الكلمات التي تراجعت عن قولها احتراما لمن لا يستحق السماع
تضحك ساخرا وتقول في سرك
ما أثقل الكلام حين لا يجد أذنا تفهمه
حين يغدو الصمت وطنا آمنا
تصبح التفاصيل الصغيرة ملجأك الوحيد
فنجان قهوة في الصباح
نغمة هادئة ترافقك دون سبب
سماء رمادية تعرف أنها تشبهك
تتعايش مع كل هذا وكأنك تعيد بناء نفسك من فتات قلب مكسور
الصمت يا صديقي لا يعني الانهزام
بل يعني أنك وصلت إلى مرحلة من النضج
تجعلك تدرك أن لا جدوى من التفسير
فمن أراد أن يفهمك فهمك دون شرح
ومن لم يرد لن تقنعه ألف كلمة
الصمت اختيار الأقوياء حين يتعب الكلام من تكرار الحقيقة
تبدأ تفهم أن الهدوء ليس فراغا
بل امتلاء بالحكمة
وأنك حين تصمت تنصت لصوتك الداخلي الذي ضاع طويلا وسط ضوضاء الآخرين
تعيد اكتشاف ذاتك وتتعلم أن السلام ليس في البعد
بل في أن تبقى قريبا من نفسك فقط
حين يغدو الصمت وطنا آمنا
تتوقف عن ملاحقة التبريرات
وتدرك أن بعض الرحيل كان واجبا
وأن بعض العلاقات كانت فوضى متنكرة في هيئة حب
تتعلم أن تترك دون ضجيج
أن تسامح بصمت
وأن تودع دون دموع
لأنك لم تعد تملك طاقة للشرح
ولا رغبة في أن تقنع من اختار ألا يفهمك
الصمت يا صديقي مدرسة لا يدخلها إلا الذين تعبوا من الضجيج
من كثرة التمثيل من الوجوه التي تبدل ملامحها حسب المصلحة
هناك في سكونك العميق
تجد نفسك
تجد الله أقرب
تجد طمأنينة لا تشبه شيئا عرفته من قبل
وحين يسألك أحدهم
لماذا صرت صامتا إلى هذا الحد
ابتسم ولا تجب
فلا أحد يفهم أن الكلام حين يموت فيك
يبعث من جديد على هيئة صبر
حين يغدو الصمت وطنا آمنا
لن تعود بحاجة إلى تفسير غيابك
ولا إلى تبرير حزنك
ولا حتى إلى شرح خيبتك
ستكتفي بأن تبتسم لأنك ما زلت قائما رغم كل شيء
ولأنك اخترت الطريق الأهدأ
حتى لو كان أكثر وجعا
فالصمت أحيانا لا يعني أنك استسلمت
بل يعني أنك نجوت من معركة لم ترد خوضها بعد الآن
هو هدوء الموج بعد العاصفة
وانطفاء النار بعد أن أحرقت كل ما حولها
وفي النهاية
حين يغدو الصمت وطنا آمنا
تكتشف أن لا وطن يشبهك أكثر من عزلتك
ولا راحة تضاهي تلك التي تأتي من سكون عرف طعم الحنين ثم سامحه
تجلس هناك في ركنك الهادئ
تغلق عينيك وتقول
ها أنا أخيرا في مكاني الصحيح
في وطن لا يوجعني أحد فيه
ولا يسكنني سوى أنا






