ميلاد المسيح: رمز المحبة والسلام وقيمته الروحية للمسلمين والمسيحيين

بقلم الدكتور ناصر الجندي
الميلاد حدث إنساني عظيم
في عالمنا المعاصر، حيث تسود التوترات والصراعات، يُعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام مناسبة عظيمة للتأمل في القيم الإنسانية المشتركة بين المسلمين والمسيحيين، خاصة أنه حدث إلهي فريد احتفى به الإسلام والمسيحية على حد سواء. هذا المقال يهدف إلى استعراض القيمة الروحية والفكرية لميلاد المسيح من منظور إسلامي ومسيحي، وكيف أن هذه المناسبة تمثل رسالة عالمية للمحبة والسلام.
الميلاد في العقيدة المسيحية: رسالة خلاص ومحبة
يمثل ميلاد السيد المسيح عليه السلام في المسيحية حدثًا فريدًا يُبشّر ببدء عهد جديد من العلاقة بين الإنسان والله. وفقًا للعقيدة المسيحية، جاء المسيح ليخلّص البشرية وينشر رسالة الحب والسلام. يُشير إنجيل لوقا إلى هذا المعنى:
“لأَنَّهُ يُولَدُ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ” (لوقا 2:11).
يرى المسيحيون أن ميلاد المسيح هو تجسيد للإله في صورة بشرية، وهو ما يعكس محبة الله للبشرية. كذلك، يُبرز هذا الحدث أهمية القيم الروحية مثل الرحمة والتسامح، التي تظهر جليًا في تعاليم السيد المسيح، ومنها قوله:
“أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم” (متى 5:44).
ميلاد المسيح في الإسلام: معجزة إلهية عظيمة
في الإسلام، يحتل السيد المسيح مكانة سامية، وميلاده يُعد من أعظم معجزات الله. وُلد عيسى عليه السلام من مريم العذراء دون تدخل بشري، في دلالة على قدرة الله المطلقة. يقول الله تعالى:
“إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ ۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٍۢ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” (آل عمران: 59).
وقد خُصصت سورة كاملة في القرآن الكريم لرواية قصة ميلاده، وهي سورة مريم. يقول الله تعالى:
“فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّۭا (24) وَهُزِّىٓ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَـٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًۭا جَنِيًّۭا (25)” (مريم: 24-25).
هذا السرد يُبرز مكانة المسيح عليه السلام كآية ورحمة من الله، ويؤكد على طهارة مريم العذراء التي اصطفاها الله لتكون نموذجًا للعبادة والطهارة.
قيم الميلاد: رسالة إنسانية مشتركة
1. المحبة والتسامح
ميلاد المسيح يُعد دعوة عالمية للمحبة والتسامح، وهما قيمتان أكد عليهما الإسلام والمسيحية. يقول الله تعالى:
“وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةًۭ وَءَاوَيْنَـٰهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍۢ ذَاتِ قَرَارٍۢ وَمَعِينٍۢ” (المؤمنون: 50).
وفي الإنجيل، يقول السيد المسيح:
“من ضربك على خدك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضًا” (متى 5:39).
2. السلام الداخلي والخارجي
السيد المسيح هو رمز السلام، وقد وُصف بأنه “رئيس السلام” (إشعياء 9:6). أما القرآن الكريم، فيدعو المسلمين إلى اتباع منهج السلام:
“يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱدْخُلُوا۟ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً” (البقرة: 208).
3. الإيمان والصبر في مواجهة المحن
من خلال قصة مريم العذراء وميلاد المسيح، يتعلم المسلمون والمسيحيون قيم الصبر والإيمان. يقول الله تعالى:
“وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ يَـٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ” (آل عمران: 42).
ميلاد المسيح والحوار بين الأديان
يمثل ميلاد المسيح فرصة لتعزيز الحوار بين الأديان. فعلى الرغم من الاختلافات العقائدية، فإن المسلمين والمسيحيين يتفقون على احترام المسيح وتعاليمه. يقول الباحث جون إيزار:
“ميلاد المسيح ليس مجرد ذكرى دينية، بل هو منصة يمكن للأديان أن تبني عليها جسورًا للتفاهم.” (إيزار، 2015).
تهنئة ورسالة محبة وسلام
في هذه المناسبة المباركة، نتوجه بخالص التهاني إلى الإخوة المسيحيين في العالم، ونسأل الله أن يجعل هذا العيد فرصة لتعزيز قيم المحبة والسلام بين البشر. إن ميلاد السيد المسيح عليه السلام هو رمز عالمي يذكرنا برسالة الله للبشرية: رسالة تقوم على الإيمان، والتسامح، والتعاون لبناء مستقبل مشترك يعمه السلام والوئام.
المراجع
1. القرآن الكريم:
سورة مريم، الآيات 24-30.
سورة آل عمران، الآيات 42-59.
سورة المؤمنون، الآية 50.
سورة البقرة، الآية 208.
2. الإنجيل:
إنجيل لوقا، الإصحاح الثاني، الآية 11.
إنجيل متى، الإصحاح الخامس، الآيات 39 و44.
سفر إشعياء، الإصحاح التاسع، الآية 6.
3. ابن كثير. (2002). تفسير القرآن العظيم. بيروت: دار الكتب العلمية.
4. إيزار، جون. (2015). العلاقات بين الأديان: بناء جسور الحوار. نيويورك: مطبعة أكسفورد.