قصة قصيرة بقلم الدكتور ناصر الجندى بعنوان “خيوط الظلام”

 بقلم الدكتور ناصر الجندي

الجزء الأول: البداية
في زمن الملك فاروق، حيث كانت مصر تعيش آخر أيام النظام الملكي، وقف كمال أفندي أمام مرآته الكبيرة في بيته العتيق بحي السيدة زينب. كان طربوشه الأحمر يميل قليلاً، وعيناه الحادتان تحملان نظرة غامضة تخفي خلفها سنوات من الخداع والمكر. في الخمسين من عمره، أتقن كمال أفندي فن التخفي خلف قناع المعلم المحترم.
لم يكن دائماً هكذا. قبل خمسة وعشرين عاماً، كان شاباً متحمساً يحمل شهادة دار المعلمين العليا، يؤمن بأن التعليم رسالة مقدسة. لكن الفقر والطموح الجامح، مع إغراءات الحياة المترفة التي كان يراها في بيوت أثرياء الحي، حولت قلبه تدريجياً إلى حجر.

الجزء الثاني: الشبكة
في مدرسة “النور للبنين”، أسس كمال أفندي شبكة معقدة من العلاقات. مدير المدرسة، حسني بك، كان شريكاً صامتاً في فساده. رجل ضعيف يخاف الفضائح، يتلقى حصته من الأموال القذرة مقابل غض الطرف. البواب عم صابر، عين كمال أفندي في المدرسة، يراقب كل شيء ويبلغه بأدق التفاصيل.
كان نظامه محكماً: يختار ضحاياه من الطلاب الفقراء الأذكياء. يبدأ بمساعدتهم في دروسهم، ثم يعرض عليهم فرصاً للكسب السريع. يستخدمهم في تهريب بضائع ممنوعة، تزوير وثائق، وأحياناً في أعمال أكثر خطورة.

الجزء الثالث: زهرة في الظلام
في خضم هذا الفساد، ظهرت فاطمة، معلمة الفلسفة الجديدة. كانت مختلفة – ذكية، حساسة، تلاحظ ما لا يلاحظه الآخرون. بدأت تجمع الخيوط، تربط بين الأحداث الغريبة في المدرسة.
لاحظت كيف يتغير سلوك بعض الطلاب المتفوقين فجأة. كيف يظهر عليهم الثراء المفاجئ ثم يختفون من المدرسة. في البداية، حاولت مواجهة حسني بك، لكنه صدها بعنف. “احذري يا آنسة فاطمة، بعض الأسرار ثمنها باهظ.”
الجزء الرابع: المواجهة
محمود، طالب في الصف الثالث الثانوي، كان آخر ضحايا كمال أفندي، لكنه كان مختلفاً. تظاهر بالقبول، لكنه كان يسجل كل شيء. تواصل سراً مع فاطمة، التي ربطته بصحفي شاب يدعى أحمد في جريدة “المصري”.
بدأ أحمد يحقق في القضية. اكتشف أن شبكة كمال أفندي أكبر مما يتخيل أحد. كانت تمتد إلى مدارس أخرى، وترتبط بشخصيات نافذة في الحكومة.

الجزء الخامس: السقوط
في ليلة ماطرة، اجتمع كمال أفندي بشركائه في بيت مهجور قرب المدرسة. كان الاجتماع لمناقشة صفقة كبيرة، لكن الشرطة كانت تراقب المكان. كانت المعلومات التي جمعها محمود وفاطمة قد وصلت إلى الجهات المعنية.
داهمت الشرطة المكان. حاول كمال أفندي الهرب، راكضاً في أزقة القاهرة القديمة، طربوشه يسقط، وقناعه المحترم يتهاوى. في النهاية، وجد نفسه محاصراً في نفس الشارع الذي بدأ فيه مسيرته كمعلم شاب قبل ربع قرن.

الجزء السادس: المحاكمة والندم
في المحكمة, تكشفت الحقائق كاملة. شهد الطلاب السابقون، تحدثت فاطمة، واعترف حسني بك بكل شيء. كمال أفندي، الذي بدا أكبر من عمره بعشرين عاماً، جلس صامتاً يستمع إلى قصة حياته تُروى أمام القاضي.
في الليلة السابقة للحكم، كتب في زنزانته: “الفساد مثل المرض، يبدأ خلية صغيرة ثم ينتشر حتى يقتل الروح. كنت أظن أنني أبني إمبراطورية، لكنني كنت في الحقيقة أحفر قبري بيدي.”

الخاتمة: درس للأجيال
أصبحت قضية كمال أفندي مادة تُدرَّس في كليات التربية. فاطمة، التي أصبحت مديرة للمدرسة لاحقاً، حولت القصة إلى درس في الأخلاق والشجاعة. محمود أكمل دراسته وأصبح محامياً يدافع عن حقوق الطلاب.
وفي زنزانته، يقضي كمال أفندي أيامه يكتب مذكراته. يتأمل كيف تحول من معلم يحمل رسالة نبيلة إلى تاجر للظلام. يكتب لطلاب المستقبل: “المال الحرام مثل الماء المالح، كلما شربت منه ازداد عطشك، حتى تغرق في بحر من الندم.”
وفي أروقة المدرسة القديمة، لا يزال الطلاب يتهامسون بقصة المعلم الذي باع ضميره، والمعلمة الشجاعة التي وقفت في وجه الفساد، والطالب الذي رفض أن يكون ضحية. قصة تذكرنا أن الشر قد يلبس عباءة الوقار، لكن الحق لابد أن ينتصر في النهاية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *