المرايا التي تعرفنا قبل أن نعرف أنفسنا

بقلم/نشأت البسيوني

هناك مرايا لا تعكس فقط ما نراه بالعين بل تكشف عن ما نخفيه في الداخل عن العالم وعن أنفسنا عن الوجوه التي نصنعها وعن المشاعر التي نكتمها وعن الاحلام التي ندفنها قبل أن نجرؤ على التفكير فيها هذه المرايا تصمت لكنها صادقة اكثر من أي صوت يعلو في حياتنا تصفنا بدون كلمات وتكشف زوايانا الخفية بدون تفسير
الانسان يقف أمامها أحيانا يظن انه يرى نفسه يرى وجهه وتفاصيل
جسده لكنه لا يعرف أن المرايا تعرف كل شيء عن روحه عن الخوف الذي يخفيه عن الحنين الذي لم يظهره عن القوة التي لم يعترف بها عن الجرح الذي يتجنبه عن الاحساس بالخذلان والخيبة والفرح المخفي كل شيء تختزنه هذه المرايا بصمت وتعيده له بطريقة دقيقة مؤلمة أحيانا مبهرة أحيانا في مواجهة هذه المرايا يصبح الانسان أكثر صدقا مع ذاته أكثر قدرة على مواجهة ما لم
يكن يريد رؤيته أكثر استعدادا لتغيير ما يمكن تغييره اكثر استسلاما لما لا يمكن تغييره المرايا تعلمه ان كل انطباع نبنيه عن نفسه وعن الآخرين غالبا يكون نصف الحقيقة وان كل محاولة للاخفاء او الادعاء تضيف طبقة جديدة من الغموض على نفسه
أخطر ما في المرايا أنها لا تكذب لكنها لا تشرح أيضا لا تحاكم لكنها تعرض الحقيقة بشكل صامت دقيق يجعل الانسان يكتشف نفسه
بطريقة غير متوقعة تجعله يواجه مخاوفه ويفهم ضعفاته ويعيد ترتيب اولوياته ويكتشف قدراته الخفية التي لم يلاحظها من قبل في صمتها القاسي يجد الانسان ذاته بين الظل والنور بين الخوف والامل بين الصمت والكلام بين ما هو عليه وما يريد أن يكون
المرايا تعلم الانسان الصبر مع ذاته تعلمه ان لا شيء يحدث دفعة واحدة ان التغيير بطيء وان الصراحة مع النفس مؤلمة لكن
ضرورية انها تعلمه ان كل احساس مخبوء كل حلم لم يحقق كل كلمة لم تقال كل دمعة لم تذرف لها وزنها وان كل ذلك يشكل من نحن وكيف نتعامل مع الحياة المرايا التي تعرفنا قبل أن نعرف أنفسنا تعلمنا ان الوعي بالذات ليس مسألة كلمات او مشاهد بل تجربة صامتة ممتدة مع كل نظرة ومع كل مواجهة مع كل لحظة صراحة مع النفس انها رحلة لا نهاية لها الا في اللحظة التي نقرر
فيها مواجهة الحقيقة بصدق لا عذر فيه ولا وهم فيها هكذا تصبح المرايا ليست مجرد زجاج يعكس صورنا بل معلم صامت يعلمنا ان ما نراه في الداخل اهم من كل ما نراه في الخارج وان الانسان حين يبدأ في رؤية نفسه بلا أقنعة ولا ادعاءات يبدأ فعليا في فهم حياته ومكانه في العالم ويكتشف ان الحقيقة التي كتمناها كانت دوما موجودة تنتظر فقط ان نعترف بها وهنا تنتهي الحكاية لان الانسان
اخيرا بدأ يرى نفسه بعين واعية ويدرك ان كل تجربة وكل مواجهة داخلية كانت جزءا من الطريق الذي يقوده نحو الحرية الداخلية والصدق مع ذاته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *