نهضة الدول وقيام الحضارة

بقلم / محمـــد الدكـروري
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم، الذي كان صلى الله عليه وسلم بكاؤه أجلّ وأفضل البكاء، وهو ما دلّ على يقين وعظمة خوف وشدة رهبة من الجليل، وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة، فأعماله صلى الله عليه وسلم كلها في أرقى مقامات الأعمال وأسمى غايات الأحوال، ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية ويجزعلى ذهاب المكاسب الدنية، ولم يكن بالفرح البطر القاسي الذي لا تؤثر فيه المواقف ولا تحركه الأزمات، بل كان بكاؤه وندمه وأسفه في مرضاة ربه وكان تبسّمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه، ففي كل خصلة من خصال النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة.
ولقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف، ونشيجه يتعالى، ولصدره أزيز ولصوته شجن حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع، كل يترك رأسه ويترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام ولا تنسيه الليالي، فكان رسول الله صلي الله عليه وسلم هكذا باكيا أمام الناس، هكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه وهو أعرف الناس بالله وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير، يبكي من قلب ملؤه الخوف من الله، ومن نفس عمرها حب الله، فتكاد دموعه تتحدث للناس، ويكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة، فاللهم صلي وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله أما بعد فإنه في ظل انعدام الأمن لا تنهض أمة ولا تقوم حضارة، ألم تجد أن الله تعالى منّ على ثمود قوم صالح بنعمة الأمن.
التي كانت من أسباب نهضة دولتهم وقيام حضارتهم؟ فلو انعدم الأمن ما استطاعوا أن ينحتوا بيوتا من الخشب فضلا عن الجبال، ولهذا امتن الله على سبأ حيث أسكنهم الديار الآمنة، فتمكنوا من بناء حضارتهم، وتشييد مملكتهم، وإنه في ظل انعدام الأمن يئن المريض فلا يجد دواء ولا طبيبا، وتختل المعايش، فتهجر الديار، وتفارق الأوطان، وتتفرق الأسر، فلا توصل الأرحام، وتنقض العهود والمواثيق، ويتعسر طلب الرزق، وتتبدل طباع الخلق، فيظهر الكذب ويغيب الصدق، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين وتقتل نفوس بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتم أطفال ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين، وإن أثر الأمن لا يقتصر على التنمية وقيام الحضارة ونهضة الأمة اقتصاديا واجتماعيا فحسب.
بل يؤثر ذلك على أداء العبادات والطاعات والمناسك لله رب العالمين، فالعبادة لا يتأتى القيام بها على وجهها إلا في ظل الأمن، ولو انتقلنا إلى عملية نشر الدعوة الإسلامية نجد أن انتشارها يكون في وقت الأمن أكثر من غيره من الأوقات، وهكذا نعلم أن للأمن أثره الفعال في التنمية ونهضة الأمة في جميع مجالات الحياة، فبالأمن تصلح الحياة، وتنبسط الآمال، وتتيسر الأرزاق، وتزيد التجارات، وبالأمن تفشو معه الماشية، وتكثر الأمة، وبالأمن تتقدم معه التنمية، وينتشر فيه العلم والتعليم، ويعز فيه الدين والعدل، ويظهر فيه الأخيار على الأشرار، وتوظف فيه الأموال في كل مشروع نافع للفرد والمجتمع، وفي ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتا، والطعام هنيئا، والشراب مريئا، فالأمن والأمان هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها.