الضوء الأخير

قصة قصيرة بقلم: محمود سعيدبرغش
في مدينةٍ لا تنام، تُطفأ فيها القلوب قبل المصابيح، عاشت ليلى منصور — مهندسة ديكور شابة، موهوبة وطموحة، تحمل في عينيها أحلامًا أكبر من حدودها.
كانت تؤمن أن الصدق وحده كافٍ لفتح الأبواب، لكنها لم تكن تعرف أن الصدق في زمن الوجوه المصنوعة قد يُغلق آخر باب.
كانت تعمل في مكتب صغير، تواصل الليل بالنهار لتصمم لوحات فنية تعكس روحها.
وفي أحد المعارض الكبرى، لفتت موهبتها أنظار آدم رشدي — رجل أعمال لامع، يتقن لعبة الأضواء والكلمات.
اقترب منها بابتسامةٍ خادعة وقال:
“موهبتك مختلفة يا ليلى… أنتي محتاجة فرصة، وأنا أقدر أقدمها لك.”
لم تعلم أن تلك الجملة كانت المفتاح لبوابةٍ مظلمة.
عملت معه في مشروعٍ ضخم لتجديد فندق فاخر على النيل، وبدأ اسمها يلمع في الصحف والمجلات.
لكنها لم تكن تدري أن العقود التي توقعها تحمل خلفها صفقات مشبوهة، وأنها مجرد ورقة في لعبة فساد كبرى.
وفي ليلةٍ باردة، دوّى اتصالٌ قلب حياتها رأسًا على عقب:
“أنتِ متهمة في قضايا اختلاس وتزوير.”
انهار كل شيء.
حاولت الوصول إلى آدم، لكنه اختفى، وظهر في بيان رسمي يؤكد أنه “تعرض للخداع من موظفة استغلت اسمه”.
تحولت ليلى من نجمة صاعدة إلى “الخائنة” التي تتصدر عناوين الصحف، وأصبحت سيرتها مادة للسخرية على وسائل التواصل.
هربت من القاهرة إلى الإسكندرية، واختبأت عند صديقتها الصحفية سارة البدري.
وفي ليالٍ طويلة من الصمت، كانت ليلى تنظر إلى البحر وكأنها تنتظر ضوءًا من بعيد.
قالت لها سارة ذات مساء:
“لو عندك دليل، قولي الحقيقة بنفسك قبل ما يكتبوها هم بطريقتهم.”
صمتت ليلى طويلًا، ثم بدأت تجمع ما تبقى من أوراقها وإيميلاتها القديمة، حتى وجدت ما يُثبت براءتها.
بعد شهور، عادت لتظهر على الهواء مباشرة في برنامج جماهيري، وقالت بصوتٍ ثابت:
“لم أخن أحدًا… لكني خُنت نفسي حين صدقت الوجوه المزيفة.”
وعرضت الأدلة أمام الجميع.
انهار آدم، وتكشفت شبكة الفساد التي كان يخفيها وراء ابتسامته.
عادت الحقيقة إلى مكانها، وعاد النور إلى وجهها.
وفي المشهد الأخير، كانت ليلى تقف على الشاطئ تمسك بدفتر أبيض وتكتب:
“ليس كل سقوط نهاية… أحيانًا يكون بداية ضوءٍ جديد.”
نظرت إلى البحر، والشمس تشرق ببطء على وجهها، ترسم خيوطها على ملامحها كأنها تعيد خلقها من جديد.
لم تعد كما كانت، لكنها صارت ما يجب أن تكون:
امرأة تعرف أن النور الحقيقي لا يُشترى، ولا يُباع… لأنه ببساطة، الضوء الأخير.
في زمنٍ يبيع فيه البعض قلوبهم مقابل الشهرة، تبقى الحقيقة النور الذي لا ينطفئ، حتى إن طال الليل وتكاثف الظلام.